| من ذاكرة تمنين | |
|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: من ذاكرة تمنين الأربعاء مارس 12, 2008 8:35 am | |
| مقدمة لقصة من 12 جزء
من قال إن خط النار كان ذلك الذي يفصل بين القرى التي كانت محررة والقرى التي تحررت بجهاد المقاومة الإسلامية فيما بعد؟ لقد كان خط النار في كل بيت، في كل قرية عاشت الألم الذي كانت تحس به القرى الأسيرة فقدمت من دماء شبابها، ومن دموع نسائها، ومن دعاء عجائزها، سلاحاً للمجاهدين، وعوناً على الظالمين. هنا قصة قرية من تلك القرى، من البقاع، تروي حكاية زمن من المقاومة لا ينتهي.. إلا بتحرير القدس. ماجدة ريا | |
|
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: حبة من عنقود الغضب الأربعاء مارس 12, 2008 8:40 am | |
| حبة من عنقود الغضب
اقترح أبو محمد على سالم أن يسمي ابنته الحديثة الولادة اسم :" قنبلة". جميع من في الغرفة من أقارب سالم ، الذين جاءوا لتهنئته وزوجته بالمولودة الجديدة ابتسموا مدركين من أين أتى هذا الإقتراح . إنه يوم لا ينسى ... كانت شذا تعدّ طعام الغداء عندما سمعت هدير طيران قوي ، يعلم سامعيه أنّ الطائرات شديدة الانخفاض ، وما إن خرجت إلى الشرفة لتستطلع الأمر حتى سبق إلى مسامعها دوي انفجار كبير ... إنه صاروخ أطلقته إحدى المقاتلات الصهيونية على مكان ما في البلدة، ومن على الشرفة رأت الدخان أمام ناظريها، يفصلها عنه عدد قليل من البيوت، إنه قريب جداً، هناك حيث تقع بيوت أخوتها وبني عمومتها... امتقع لونها، ارتجفت كورقة هزّتها ريح خريفية بعنف دون سابق إنذار. قصف في وسط البلدة؟ أين المكان التالي؟ الجميع في خطر... تلفّتت حولها مرتعبة من زمجرة الطائرات التي لا زالت تستبيح الأجواء دون حرمة لمنزل أو سكن... إنه ليس بالأمر الغريب على ذلك العدو المتغطرس الذي يعربد بطائراته كيفما شاء في سماء لبنان. عادت إلى الداخل، احتضنت ابنها الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات بعد، وتاهت عيناها في عالم آخر، تبحث فيه عن أجوبة لأسئلة محيّرة، وسيبقى الجواب مجهولاً، على الأقل حتى المساء، عندما يعود زوجها من عمله في تلك الإذاعة المقاومة، التي كانت بشكل دائم الهدف الأول لطائرات العدو، وقد قصفت في أكثر من مرّة، وفي كل مرّة كانت نيران القلق تلتهم قلب شذا كما تلتهم الهشيم اليابس، وتمتد لتشمل كيانها برعب لا يوصف. بعد لحظات بدت كأنها دهر طويل، غاب صوت الطيران دون أن تغيب آثاره من دخان ودماء ودمار... الناس يتراكضون إلى المكان لمعرفة ما حدث، وسرعان ما انتشر الخبر، إنه المنزل القديم الذي يقع بمحاذاة الطريق العام، تفصله عنه حديقة صغيرة تخص المنزل، إنه المنزل الذي كان يجتمع فيه الأخوة المجاهدون، ولهذا المنزل ذكريات حميمة لدى حسن زوج شذا .. فقد قضى فيه أياماً طويلة في فترة زمنية من عمره وقبل أن يلتحق بعمله في الإذاعة؛ وكان يزوره من وقت لآخر لعلاقته بالأخوة هناك.. لكن في الفترة الأخيرة كان ـ من نعم الله ـ هذا المنزل مهجوراً. يا لهول المشهد! لم يبقى منه إلا الركام! وقد سوّي تقريباً بالأرض. لكن الدمار طاول المنازل المجاورة فوقعت بعض الجدران والأبواب القريبة من المبنى، وتكسّر زجاج النوافذ وتناثرت الشظايا على الطرقات وأمام المنازل حتى مسافات بعيدة من شدّة الانفجار. سُمع صراخ، في مكان قريب، فتوجّه الناس إلى ذلك المكان، يتساءلون "ما الخبر"؟! سريعاً أتى الجواب: "المعلمة سناء استشهدت"... "المعلمة سناء كانت تمر من أمام المنزل المستهدف لحظة الغارة الغادرة، فأصيبت بشظية قتلتها.." كان الخبر ثقيلاً على الجميع، وهي التي عرفت بحسن أخلاقها، وطيبة قلبها، وهي التي ربّت الكثيرين من أبناء هذه البلدة، حتى شذا تتلمذت على يديها، وكانت لا زالت تربي وتعلّم الأجيال واحداً تلو الآخر، ها هي الآن انتقلت إلى رحمة ربّها راضية مرضية، شهيدة مظلومة على يد طائرات الغدر الصهيونية، تاركة وراءها قلوباً مفجوعة عليها، خاصة زوجها الذي بدت آثار الصدمة مرسومة على وجهه بألوان من الذهول والحزن والحرقة، وأطفالها الذين كانوا يتصارخون على نعشها بمرارة وأسى. *** جولة تفقّدية بدأ بها سكان تلك القرية، سيّما الذين لهم أقارب حول المكان الذي استهدف بالقصف، وكان لا بدّ لشذا من أن تتوجّه إلى هناك لتتفقد أحوال أقاربها، خاصة وأنه هناك العديد من الجرحى، وصلت إلى بيت ابنة عمها لأنها الأقرب إلى مكان الانفجار فقد كان يفصل بينهما الشارع فقط، زجاج منزلها سقط كله، وقد أخبرتها أن ابنتها التي كانت تنام في سريرها تحت النافذة، كادت تقتل لولا لطف الله سبحانه وتعالى، وهي أصيبت بشظية في رأسها شجّت جبهتها. هنّأتهم بالسلامة ومضت نحو منازل أخوتها، وهناك علمت أن سمر زوجة سالم ذهبت لتلد، وسألت شذا مستغربة: "هل هو أثر الخوف ؟" فأجابتها هند زوجة أخيها باسم : "أي خوف، لقد نجت بأعجوبة هي وأخوك سالم، لقد كانا لحظة وقوع الصاروخ في الشارع في سيارتهما أمام ذلك المبنى، ولكن صادف أنهما كانا وراء بوابة كبيرة وتناثرت الشظايا من حولهما كالمطر، وقد وصلا إلى هنا بلا لون من شدة الرعب وتوجها فوراً إلى المستشفى". "يا الهي! كادت تحدث كارثة إذاً؟!" وقد بدا التأثر عليها واضحاً. "نعم، إن الله لطف بنا في اللحظة الأخيرة." " الحمد لله رب العالمين ." وصل أحمد وهما تتحدثان، وقال :"لقد أنجبت فتاة". "وكيف حالها هي؟!" "بخير.. بخير" قالت شذا: "سأذهب الآن لأشارك في مأتم المعلمة سناء ، فهي تعزّ علي". فقالت هند: "سآتي معك ، فهي تعزّ علينا جميعاً". *** عادت شذا إلى منزلها بعد نهار طويل ومضن، لتجلس هي وابنها الصغير ينتظران عودة حسن من عمله، وقد بدا القلق والترقب واضحان على وجهها المرهق. فتح الباب ليظهر منه حسن بملامح لا تختلف عن ملامحها بشيء، بل تزيد توتراً وقلقاً. ركضا نحوه يستقبلانه وهي تتمتم: "حمداً لله على سلامتك، لقد كان نهاراً مرعباً". ربّت على كتفها بحنوٍّ وهو يقول وقد حمل هادي بين يديه يضمه: "لقد خفت عليكما كثيراً، لم أعرف كيف مرّ الوقت كي أعود إليكم، كان حسان يزودني بالمعلومات مباشرة عبر الهاتف". "لقد عرفت إذاً؟" هزّ رأسه علامة الإيجاب وقال: "عظّم الله أجرك، حزنت جداً لفقد المعلمة سناء، أعان الله عائلتها على فقدانها". "مسكين زوجها، إنه في حال يرثى لها، أما أطفالها.. شيء محزن حقاً". "هذا هو عدوّنا، انه لا يرحم كبيراً ولا يرأف بصغير، هذه هي إسرائيل". ***** يتبع
| |
|
| |
zakar!a مشـرف منتـدى هـمـس القـوافـي
عدد الرسائل : 108 الصورة الشخصية : تاريخ التسجيل : 21/02/2008
| موضوع: رد: من ذاكرة تمنين الأربعاء مارس 12, 2008 9:12 am | |
| السلام عليكم اختي ماجده ما أروعها من قصه مؤثره لك كل الود والتقدير على المجهود احتراامي
| |
|
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: رد: من ذاكرة تمنين الخميس مارس 13, 2008 3:21 am | |
| وعليكم السلام أخي زكريا وبارك الله بك وبجهودك الطيبة شكراً لك على هذا المرور الجميل مع أطيب التحيات
| |
|
| |
Admin عضو محترف
عدد الرسائل : 71 العمر : 36 العمل/الترفيه : لا شيء الصورة الشخصية : تاريخ التسجيل : 21/02/2008
| |
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: رد: من ذاكرة تمنين الإثنين مارس 17, 2008 5:04 am | |
| العزيز قاسم إبن الغوالي أولاً تحية كبيرة لك ولأهلك وكل من حولك وشكراً لك على هذا المرور الجميل ويسعدني أن القصة أعجبتك كما أرجو أن تعجبك باقي الأجزاء أيضاً شكراً لكم على جهودكم الطيبة ودمت بألف خير
| |
|
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: في غياهب الذاكرة الإثنين مارس 17, 2008 5:10 am | |
|
"هذه هي إسرائيل" .. كررت شذا هذه العبارة في ذاتها وقد أخذتها كلمة إسرائيل إلى البعيد، إنها توقظ في نفسها ونفس من يسمعها ذكريات أليمة مليئة بالتوتر والغضب.وتساءلت في نفسها: متى سمعت كلمة إسرائيل لأول مرة؟ كان هذا منذ زمن بعيد، كانت طفلة صغيرة ولا تدرك أبعاد الأمور، لكنها لا زالت تذكر جيّداً أحاسيس الرعب المرتبط بهذه الكلمة. بدت الصورة غائمة مشوّشة في رأسها وهي تبحث في ملفات السنين الماضية، إلى أن ظهر منها ذلك الجسم الغريب المخيف الذي يبسط جناحيه الكبيرين في السماء، وينقض على أهدافه، ثم يعلو ليختفي بلمح البصر. كانت شذا يومها في السابعة من عمرها، وكانت هي وأخوها الذي يكبرها بقليل برفقة جدّتها في كرم العنب الواقع على أطراف القرية، وقد انتصبت عند بداياته شجرتا تين، تمتدان نحو السماء بشموخ، تتدلى منهما أكواز التين شهية برّاقة بلونها الذهبي، تدعو الناظر إليها لقطافها. كانت الجدة تلتقطها بعناية وتصفّها في سلة من القش خصصت لهذا الأمر، وبينما هي كذلك، انكسر الغصن الذي تقف عليه فوقعت أرضاً. ركض الطفلان نحوها وهي تئن من الألم، حاولت الوقوف فلم تسعفها قدمها التي بدا واضحاً أنها كسرت إثر سقوطها.. نظرت الجدة إلى شذا وأخيها، وقالت من بين أنّاتها الموجوعة: "عودا إلى البلدة، وأعلما والديكما بالأمر، فأنا لن أستطيع السير". "حاضر يا جدتي"، قالاها معاً وانطلقا بسرعة الريح، يتعثران بالتراب والحجارة التي ملأت ذلك الدرب الفاصل بين الكروم حتى بلغا مشارف البلدة، وإذا بصوت أقوى من الرعد يمر مزمجراً فوق رأسيهما، ارتعبا، وحانت منهما التفاتة ذعر باتجاه السماء حيث مصدر الصوت.. صرخ أحمد: "ما أكبرها! إنها منخفضة جداً، لأول مرة أرى طائرة بهذا الوضوح!". تشبثت شذا بثياب أخيها, وهي تقول :"أنا خائفة ".
وفي حين كان الصوت يبتعد عنهما كان أحمد يشدها من يدها ويقول:
"أسرعي، علينا إخبار أهلنا ليحضروا جدتنا، إنها وحيدة الآن!"
***لقد كانت طائرة إسرائيلية، هكذا قالوا لها. وطبعت كلمة إسرائيل برأسها كما طبع هذا المشهد.. إنها لحظات الرعب من ذلك العدو المتوحش الذي عايش هذا الجيل منذ نشأته، ولازم الصغار والكبار. هذا العدو الذي امتد أذاه عبر السنين يزحف كأفعى التنين برؤوس كثيرة وأذرع ملتوية لتصل إلى كل فرد من أفراد الوطن، وإلى كل شبر من تراب أرضه الغالية. ـ يتبع ـ
| |
|
| |
علي محمد ريا عضو محترف
عدد الرسائل : 112 العمر : 38 تاريخ التسجيل : 25/02/2008
| موضوع: رد: من ذاكرة تمنين الأربعاء مارس 19, 2008 2:30 pm | |
| انه لشرف كبير لنا ومكسب كبير لكل تمنين انضمامك لاسرة المنتدى ايتها الاخت ماجدة خاصة بعد هذه المواضيع الرئعة وانا شخصيا متاكد ان الذي رايناه هو نقطة في بحر ابداعك تحياتي الحارة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته | |
|
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: رد: من ذاكرة تمنين الأربعاء مارس 26, 2008 3:34 am | |
| الأخ العزيز علي محمد ريا والشرف الأعظم أن يتواجد المرء بين أهله وأحبائه سعيدة جداً بمرورك من هنا يا علي ولك وللأهلك الأعزاء وكل من حولك أطيب التحيات وأجلّ التقدير وبارك الله بجهودكم ودمتم بألف خير | |
|
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: العدو المصطنع الأربعاء أبريل 23, 2008 1:34 pm | |
|
تارة كان رأس هذه الأفعى إسرائيلياً صرفاً، وأخرى كان من بعض أبناء هذا الوطن، فأتى الجرح منهم أكثر عمقاً وغوراً.. وبدعوى تحرير الوطن في عام 1975 كان أحد الجنرالات، وهو من الذين كانوا يتفاخرون جهارا بعلاقته مع إسرائيل، يمطر القرى اللبنانية بالقذائف الثقيلة التي بدا واضحاً من عيارها أنها قذائف صهيونية، وكانت قرية شذا من بين القرى التي استهدفت بعدد لا بأس به من القذائف، إحداها سقطت في قلب البلدة، أمام أحد المنازل، فقتلت الشاب غسان وهو من أقارب شذا، كان أمام الباب يدخل أخوته الصغار إلى المنزل، فعاجلته إحدى شظايا القذيفة التي وقعت بالقرب من منزلهم وأردته شهيداً. يومها كان المنظر مروعاً، ليس من جثته التي سبحت بالدماء وحسب، إنما من تلك السيارة التي كانت تمر أمام منزلهم في تلك اللحظة المشؤومة، وكانت تقلّ في داخلها أباً حمل عائلته، الزوجة وثلاثة أولاد، هارباً من القذائف.. لم يدرِ أحد أين وجهته لأنه قضى مع عائلته في السيارة التي أصيبت بتلك القذيفة مباشرة، وتحول الجميع إلى أشلاء... في ذلك الوقت، كانت شذا وعائلتها على الطريق عائدين من زيارة لبيت عمها، عندما بدأ صفير القذائف يملأ الأجواء، فاختار أبوها طريقاً فرعية توصلهم إلى المنزل بسرعة أكبر، وكذلك تبعدهم عن خطر الطريق العام الذي كان يستهدف باستمرار، وكان تقدير والدها في مكانه، إذ سقطت القذيفة في مكان كان يفترض أن يكونوا متواجدين فيه لو أنهم سلكوا الطريق العام، وقال الوالد بزفرة قوية عندما سمع دوي انفجارها:" الله سبحانه وتعالى نجّانا". وكانت شذا وأخوتها يرتجفون من الخوف، وفي لحظات كانوا يختبئون في المنزل الذي لجأ إليه الكثير من أهالي الحي باعتبار أنه أكثر أمناً من غيره لأنه يتألف من ثلاث طبقات، في حين كانت باقي البيوت متفرقة وفي معظمها مؤلفة من طابق واحد، وقد كان يسود الاعتقاد حينها أن كثرة السقوف تحمي، فوُضعت شذا مع كثير من الأطفال تحت الدرج كي لا يصابوا بأذى، وهي لا تنسى صراخ من هم أصغر منها سناً، ورعبها مما يجري دون أن يفقهوا ما الأمر.
| |
|
| |
ماجدة ريا عضو جديد
عدد الرسائل : 13 تاريخ التسجيل : 10/03/2008
| موضوع: الليلة المرعبة الأربعاء أبريل 23, 2008 1:39 pm | |
|
كثيراً ما كان يجتمع الجيران عند أهل شذا للسبب نفسه، فهي تذكر جيداً تلك الليلة من ليالي حزيران اللاهبة من عام 1982.في تلك الليلة لم يذق أحد طعم النوم، وكان الضجيج يصم الآذان، ضجيج هو خليط من هدير الطائرات الصهيونية وأصوات القنابل العنقودية التي كانت تلقى على القرية.. ومع كل انفجار كان المكان يرتج ، ويتشبّث الصغار بثياب أمهاتهم، ويعلو نحيبهم، الأمهات يحاولن كبت أنفاسهن حتى لا يخفن الصغار، لكن الأنّات كانت تفلت منهن مع كل صوت انفجار، ويبدأن بالأدعية من أجل الأطفال ومن أجل الجميع. لم تتعب الطائرات طوال الليل، ولم يتعب الأطفال من البكاء، لم ينم أحد في تلك الليلة المرعبة إلى أن أتى هدوء الصباح، فغفا الأولاد مع ابتعاد الهدير المزعج، وانصرف الكبار إلى أعمالهم يتفقدون بعضهم بعضاً... وأعلم الجميع أن هناك الكثير من القنابل التي لم تنفجر لا زالت موجودة قرب الحسينية، وأنها يمكن أن تنفجر في أي لحظة. كان شهر حزيران لعام 1982 عاصفاً بالأحداث، وكانت الطائرات الصهيونية بالكاد تغيب عن سماء لبنان، وكانت شذا تراها وتسمعها بشكل دائم.. كما كانت تستشعر من حولها القلق والتوتر الدائم الذي يعيشه الناس، وأهلها بشكل خاص، سيما تلك الليلة التي قام فيها الطيران الصهيوني بقصف طريق ظهر البيدر وصولاً إلى الحدود مع سوريا (الطريق الدولية )، وكان عمها وعائلته موجوداًً على ذلك الطريق، وبقي الجميع متوتراً طيلة الليلة إلى أن وصل العم إلى المكان الذي كان يقصده وأوصل إليهم خبراً يعلمهم أنه نجا. أما عمّتها سمية فبقيت همّ العائلة الأكبر، وقد كانت متزوجة من رجل من أبناء جنوب لبنان، وكانت تسكن معه في بلدة كفر تبنيت، ولم يعرفوا عنها شيئاً. كانت نادراً ما تستطيع المجيء إلى البلدة، ولكنهم دائماً مشغولو البال عليها، بسبب الاجتياح الإسرائيلي للبنان، وقد عرفوا فيما بعد أنها تركت منزلها في كفر تبنيت، لأنه كان عرضة للاعتداءات الصهيونية، وقد تعرض للكثير من الرصاص الذي اخترق جدرانه، ففضلت هي وزوجها الهروب بأطفالهم الصغار إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث استأجروا بيتاً صغيراً إلى أن "يفرجها الله". عام 1982 هو عام الاجتياح، عام الاعتداءات المتواصلة على لبنان، سطّر فيه العدو الصهيوني سيرة إجرامه وحقده على بني البشر، عام يشهد فيه البيت والسماء والأرض والحجر، وكل كائن حي حتى النبات والشجر، أن هذا العدو أقسى من طاغ قد كفر.
***ويتوقف شريط الذكريات الطويل، عند مشهد آخر من مشاهد شهر حزيران 1982، مشهد حُفر بذاكرتها كأنه لوحة لا توصف! ذات صباح، كانت الشمس لا تزال قريبة من مشرقها، لكن أشعتها الذهبية تنفذ إلى كل مكان، توقظ النشاط في النفوس، وشذا التي كانت يومها في قمة النشاط، كانت تلعب مع صديقتها وجارتها في آن في الفسحة الواسعة التي كانت تفصل بين بيتيهما، كانتا تبتسمان للنهار بإشراق وحيوية عندما سمعتا دوي انفجار قوي، وأخ صديقتها يصرخ بهما: "ماذا تفعلان هنا؟ هيا إلى الداخل" ركضت شذا باتجاه منزلها، صعدت الدرج مسرعة وهي تتساءل في نفسها: "ما الذي يحدث، إنه صوت الطيران...". وصلت إلى الشرفة وما إن دخلت من بابها حتى وقع نظرها على الطائرة التي بدت كأنها مسمرة أمامها وقد اشتعلت النيران بالقسم الخلفي منها، إنها لا تبتعد عن منزلها سوى أمتار، وهي منخفضة جداً، إذ لو أنها في مدينة للامست أسطح البنايات من شدة انخفاضها. أخوها الكبير على الشرفة يدفع بأخوتها الصغار نحو الداخل ويصرخ بشذا التي أصابها الجمود من شدة ذهولها ـ إذ أنها لأول مرة ترى هذا المشهد ـ :
" هيا ادخلي "
... ودفعها نحو الداخل . أبوها، العسكري الذي كان يخدم في ثكنة رياق القريبة من بلدتها، كان يراقب الطائرة من على السطح ويرى أنها ستقع في الحي الذي توجد فيه عائلته.. إنه الرعب الذي لا يوصف والقلق الذي ليس له حدود، كان ينظر ليرى أين ستقع وفوق أي منزل؟ لقد أصيبت الطائرة، التابعة لسلاح الجو في الدولة الشقيقة خلال اشتباك مع الطائرات الحربية الصهيونية، وهي على مشارف البلدة إلا أن الطيار أبى أن ينقذ نفسه ويترك طائرته تهوي على تجمع كبير من البيوت، وبدأ صراعه مع الطائرة المشتعلة التي بدا واضحاً أنها لا تعينه في القيادة، وبقي يبذل جهداً كبيراً في قيادتها وهو يحاول إبعادها عن المنازل، وما لبث أن أوصلها إلى أطراف القرية في حقل يدعى "عين بستا "، فألقى نفسه منها ليتركها طعاماً لنيرانها المشتعلة التي كانت قد وصلت إلى ظهره وأصابته بحروق بليغة، نقل إثرها إلى المستشفى ليعالج، ثم ما لبث أن قضى حتفه، متأثراً بإصابته، وحفظ له أهل القرية هذا الجميل الذي استحق على أثره لقب البطل، إذ أنقذ بعمله هذا الكثير من الناس من شر الهمجية الصهيونية. في ذلك النهار كان الناس منتشرين على الشرفات وأسطح المنازل، يراقبون عن كثب المعارك التي كانت تدور بين طائرات العدو والطائرات الأخرى، ويسجلون في قلوبهم ما يرونه: هذه أصيبت، وهذه اندلعت النار فيها، وأخرى سقطت.. وهكذا كان الناس يشاهدون بأم العين هذه الحرب الطاحنة.
يتبع
| |
|
| |
| من ذاكرة تمنين | |
|